فصل: تفسير الآيات رقم (1- 3)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التحرير والتنوير المسمى بـ «تحرير المعنى السديد وتنوير العقل الجديد من تفسير الكتاب المجيد»***


سورة النجم

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 3‏]‏

‏{‏وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى ‏(‏1‏)‏ مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى ‏(‏2‏)‏ وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى ‏(‏3‏)‏‏}‏

كلام موجه من الله تعالى إلى المشركين الطاعنين في رسالة محمد صلى الله عليه وسلم

و ‏{‏النجم‏}‏‏:‏ الكوكب أي الجرم الذي يبدو للناظرين لامعاً في جو السماء ليلاً‏.‏

أقسم الله تعالى بعظيم من مخلوقاته دال على عظيم صفات الله تعالى‏.‏

وتعريف ‏{‏النجم‏}‏ باللام، يجوز أن يكون للجنس كقوله‏:‏ ‏{‏وبالنجم هم يهتدون‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 16‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏والنجم والشجر يسجدان‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 6‏]‏، ويحتمل تعريف العهد‏.‏ وأشهر النجوم بإطلاق اسم النجم عليه الثريّا لأنهم كانوا يوقتون بأزمان طلوعها مواقيت الفصول ونضج الثمار، ومن أقوالهم‏:‏ طلع النَّجم عِشاءَ فابتغى الراعي كمساءَ طَلع النجم غُذَيَّة وابتغى الراعي شُكَية ‏(‏تصغير شَكْوة وعاءٍ من جلد يوضع فيه الماء واللبن‏)‏ يعنون ابتداء زمن البرد وابتداء زمن الحرّ‏.‏

وقيل ‏{‏النجم‏}‏‏:‏ الشعرى اليمانية وهي العبورُ وكانت معظمة عند العرب وعَبدتْها خُزاعة‏.‏

ويجوز أن يكون المراد ب ‏{‏النجم‏}‏‏:‏ الشهاب، وبهُويه‏:‏ سقوطه من مكانه إلى مكان آخر، قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا زينا السماء الدنيا بزينة الكواكب وحفظاً من كل شيطان مارد‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 6، 7‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏ولقد زينا السماء الدنيا بمصابيح وجعلناها رجوماً للشياطين‏}‏ ‏[‏الملك‏:‏ 5‏]‏‏.‏

والقَسَم ب ‏{‏النجم‏}‏ لما في خَلقه من الدلالة على عظيم قدرة الله تعالى، ألا ترى إلى قول الله حكاية عن إبراهيم ‏{‏فلما جَنّ عليه الليل رأى كوكباً قال هذا ربي‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏

وتقييد القَسَم بالنجم بوقت غروبه لإِشعار غروب ذلك المخلوق العظيم بعد أَوْجه في شرف الارتفاع في الأفق على أنه تسخير لقدرة الله تعالى، ولذلك قال إبراهيم‏:‏ ‏{‏لا أحب الآفلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏

والوجه أن يكون ‏{‏إذا هوى‏}‏ بدل اشتمال من النجم، لأن المرَاد من النجم أحواله الدالة على قدرة خالقه ومصرفه ومن أعظم أحواله حال هُويِّه، ويكون ‏{‏إذا‏}‏ اسم زمان مجرداً عن معنى الظرفية في محل جر بحرف القسم، وبذلك نتفادى من إشكال طَلب متعلق ‏{‏إذَا‏}‏ وهو إشكال أورده العلامة الجَنْزِي على الزمخشري، قال الطيبي وفي «المقتبس» قال الجَنْزِي‏:‏ «فاوضتُ جارَ الله في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏والنجم إذا هوى‏}‏ ما العامل في ‏{‏إذا‏}‏‏؟‏ فقال‏:‏ العامل فيه ما تعلّق به الواو، فقلت‏:‏ كيف يعمل فعل الحال في المستقبل وهذا لأن معنا أُقسم الآن، وليس معناه أُقسم بعد هذا فرجع وقال‏:‏ العامل فيه مصدر محذوف تقديره‏:‏ وهُوِيّ النجم إذا هَوَى، فعرضته على زين المشائخ فلم يستحسن قوله الثاني‏.‏ والوجه أن ‏{‏إذا‏}‏ قد انسلخ عنه معنى الاستقبال وصار للوقت المجرد، ونحوه‏:‏ آتيك إذا احمرّ البسر، أي وقت احمراره فقد عُرّي عن معنى الاستقبال لأنه وقعت الغنية عنه بقوله‏:‏ آتيك اه‏.‏ كلام الطيبي، فقوله‏:‏ فالوجه يحتمل أن يكون من كلام زين المشائخ أو من كلام صاحب «المقتبس» أو من كلام الطيبي، وهو وجيه وهو أصل ما بنينا عليه موقع ‏{‏إذَا‏}‏ هنا، وليس تردد الزمخشري في الجواب إلا لأنه يلتزم أن يكون ‏{‏إذَا‏}‏ ظرفاً للمستقبل كما هو مقتضى كلامه في «المفصَّل» مع أن خروجها عن ذلك كثير كما تواطأت عليه أقوال المحققين‏.‏

والهُوِيّ‏:‏ السقوط، أطلق هنا على غروب الكوكب، استعير الهُوِيُّ إلى اقتراب اختفائه ويجوز أن يراد بالهوِيّ‏:‏ سقوط الشهاب حين يلوح للناظر أنه يجري في أديم السماء، فهو هويّ حقيقي فيكون قد استعمل في حقيقته ومجازه‏.‏

وفي ذكر ‏{‏إذا هوى‏}‏ احتراس من أن يتوهم المشركون أن في القسم بالنجم إقراراً لعبادة نجم الشعرى، وأن القسم به اعتراف بأنه إله إذ كان بعض قبائل العرب يعبدونها فإن حالة الغروب المعبر عنها بالهُوِيِّ حالة انخفاض ومغيب في تخيّل الرّائي لأنهم يعُدُّون طلوع النجم أوجاً لشرفه ويعدون غروبه حَضيضاً، ولذلك قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فلما أفل قال لا أحب الآفلين‏}‏ ‏[‏الأنعام‏:‏ 76‏]‏‏.‏

ومَن مناسبات هذا يجيء قوله‏:‏ ‏{‏وأنه هو رب الشعرى‏}‏ في هذه السورة ‏(‏49‏)‏، وتلك اعتبارات لهم تخيلية شائعة بينهم فمن النافع موعظة الناس بذلك لأنه كاف في إقناعهم وصولاً إلى الحق‏.‏

فيكون قوله‏:‏ ‏{‏إذا هوى‏}‏ إشعاراً بأن النجوم كلها مسخرة لقدرة الله مسيّرة في نظام أوْجدها عليه ولا اختيار لها فليست أهلاً لأن تعبد فحصل المقصود من القسم بما فيها من الدلالة على القدرة الإِلهية مع الاحتراس عن اعتقاد عبادتها‏.‏

وقال الراغب‏:‏ قيل أراد بذلك أي ب ‏{‏النجم‏}‏ القرآن المنزل المنجم قدراً فقدراً، ويعني بقوله‏:‏ ‏{‏هوى‏}‏ نزوله اه‏.‏

ومناسبة القسم ب ‏{‏النجم إذا هَوَى‏}‏، أن الكلام مسوق لإثباتتِ أن القرآن وحي من الله منزل من السماء فشابَه حالُ نزوله الاعتباريِّ حال النجم في حالة هويِّه مشابهة تمثيلية حاصلة من نزول شيء منيرٍ إنارة معنوية نازل من محل رفعة معنوية، شبه بحالة نزول نجم من أعلى الأفق إلى أسفله وهو من تمثيل المعقول بالمحسوس، أو الإِشارة إلى مشابهة حالة نزول جبريل من السماوات بحالة نزول النجم من أعلى مكانه إلى أسفله، أو بانقضاض الشهاب تشبيه محسوس بمحسوس، وقد يشبهون سرعة الجري بإنقضاض الشهاب، قال أوس بن حجر يصف فرساً‏:‏

فانقضّ كالدُريّ يتبعه *** نقع يثور تخاله طُنبا

والضلال‏:‏ عدم الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى المقصود، وهو مجاز في سلوك ما ينافي الحق‏.‏

والغواية‏:‏ فساد الرأي وتعلقه بالباطل‏.‏

والصاحب‏:‏ الملازم للذي يضاف إليه وصف صاحب، والمراد بالصاحب هنا‏:‏ الذي له ملابسات وأحوال مع المضاف إليه، والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كقول أبي مَعبد الخزاعي الوارد في أثناء قصة الهجرة لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم بيته وفيها أمُّ معبد وذكرت له معجزة مسحه على ضرع شاتها‏:‏ «هذا صاحب قريش»، أي صاحب الحوادث الحادثة بينه وبينهم‏.‏

وإيثار التعبير عنه بوصف ‏{‏صاحبكم‏}‏ تعريض بأنهم أهل بهتان إذ نسبوا إليه ما ليس منه في شيء مع شدة إطلاعهم على أحواله وشؤونه إذ هو بينهم في بلد لا تتعذر فيه إحاطة علم أهله بحال واحد معين مقصود من بينهم‏.‏

ووقع في خطبة الحجاج بعد دَير الجماجم قوله للخوارج «ألستم أصحابي بالأهواز حين رُمتم الغدر واستبطنتم الكفر» يريد أنه لا تخفى عنه أحوالهم فلا يحاولون التنصل من ذنوبهم بالمغالطة والتشكيك‏.‏

وهذا رد من الله على المشركين وإبطال لقولهم في النبي صلى الله عليه وسلم لأنهم قالوا‏:‏ مجنون، وقالوا‏:‏ ساحر، وقالوا‏:‏ شاعر، وقالوا في القرآن‏:‏ إنْ هذا إلا اختلاق‏.‏

فالجنون من الضلال لأن المجنون لا يهتدي إلى وسائل الصواب، والكذبُ والسحر ضلال وغواية، والشعر المتعارف بينهم غواية كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏والشعراء يتبعهم الغاوون‏}‏ ‏[‏الشعراء‏:‏ 224‏]‏ أي يحبذون أقوالهم لأنها غواية‏.‏

وعُطف على جواب القسم ‏{‏ما ينطق عن الهوى‏}‏ وهذا وصف كمال لذاته‏.‏ والكلام الذي ينطق به هو القرآن لأنهم قالوا فيه‏:‏ ‏{‏إن هذا إلا إفك افتراه‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 4‏]‏ وقالوا‏:‏ ‏{‏أساطير الأولين اكتتبها‏}‏ ‏[‏الفرقان‏:‏ 5‏]‏ وذلك ونحوه لا يعدُو أن يكون اختراعه أو اختياره عن محبة لما يُخترع وما يُختار بقطع النظر عن كونه حقاً أو باطلاً، فإن من الشعر حكمة، ومنه حكاية واقعات، ومنه تخيلات ومفتريات‏.‏ وكله ناشئ عن محبة الشاعر أن يقول ذلك، فأراهم الله أن القرآن داععٍ إلى الخير‏.‏

و ‏(‏ما‏)‏ نافية نفت أن ينطق عن الهوى‏.‏

والهوى‏:‏ ميل النفس إلى ما تحبه أو تحب أن تفعله دون أن يقتضيه العقل السليم الحكيم، ولذلك يختلف الناس في الهوى ولا يَختلفون في الحق، وقد يحب المرء الحق والصواب‏.‏ فالمراد بالهوى إذا أطلق أنه الهوى المجرد عن الدليل‏.‏

ونفي النطق عن هَوى يقتضي نفي جنس ما يَنْطق به عن الاتصاف بالصدور عن هوى سواء كان القرآن أو غيره من الإِرشاد النبوي بالتعليم والخطابة والموعظة والحكمة، ولكن القرآن هو المقصود لأنه سبب هذا الرد عليهم‏.‏

واعلم أن تنزيهه صلى الله عليه وسلم عن النطق عن هوى يقتضي التنزيه عن أن يفعل أو يحكم عن هوى لأن التنزه عن النطق عن هوى أعظم مراتب الحكمة‏.‏ ولذلك ورد في صفة النبي صلى الله عليه وسلم «أنه يمزح ولا يقول إلا حقًّا»‏.‏ وهنا تم إبطال قولهم فحسن الوقف على قوله‏:‏ ‏{‏وما ينطق عن الهوى‏}‏‏.‏

وبين ‏{‏هوى‏}‏ و‏{‏الهوى‏}‏ جِناس شبه التام‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏4- 10‏]‏

‏{‏إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى ‏(‏4‏)‏ عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى ‏(‏5‏)‏ ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى ‏(‏6‏)‏ وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى ‏(‏7‏)‏ ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى ‏(‏8‏)‏ فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى ‏(‏9‏)‏ فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى ‏(‏10‏)‏‏}‏

استئناف بياني لجملة ‏{‏وما ينطق عن الهوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 3‏]‏‏.‏

وضمير ‏{‏هو‏}‏ عائد إلى المنطوق به المأخوذ من فعل ‏{‏ينطق‏}‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏اعدلوا هو أقرب للتقوى‏}‏ ‏[‏المائدة‏:‏ 8‏]‏ أي العدل المأخوذ من فعل ‏{‏اعْدلوا‏}‏‏.‏

ويجوز أن يعود الضمير إلى معلوم من سياق الرد عليهم لأنهم زعموا في أقوالهم المردودة بقوله‏:‏ ‏{‏ما ضل صاحبكم وما غوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 2‏]‏ زعموا القرآن سحراً، أو شعراً، أو كهانة، أو أساطير الأوّلين، أو إفكاً افتراه‏.‏

وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم ينطق بغير القرآن عن وحي كما في حديث الحديبية في جوابه للذي سأله‏:‏ ما يفعل المعتمر‏؟‏ وكقوله‏:‏ ‏"‏ إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل أجلها ‏"‏ ومثل جميع الأحاديث القدسية التي فيها قال الله تعالى ونحوه‏.‏

وفي «سنن أبي داود» و«الترمذي» من حديث المقدام بن معد يكرب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏ إني أوتيت الكتاب ومثله معه، ألا يوشك رجل شبعان على أريكته، يقول‏:‏ عليكم بهذا القرآن فما وجدتم فيه من حلال فأحِلُّوه وما وجدتم فيه من حرام فحرّموه ‏"‏‏.‏ وقد ينطق عن اجتهاد كأمره بكسر القدور التي طبخت فيها الحُمُر الأهلية فقيل له‏:‏ أو نُهريقها ونغسلها‏؟‏ فقال‏:‏ «أو ذاك»‏.‏

فهذه الآية بمعزل عن إيرادها في الاحتجاج لجواز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم لأنها كان نزولها في أول أمر الإِسلام وإن كان الأصح أن يجوز له الاجتهاد وأنه وقع منه وهي من مسائل أصول الفقه‏.‏

والوحي تقدم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح‏}‏ في سورة النساء ‏(‏163‏)‏‏.‏ وجملة ‏{‏يوحى‏}‏ مؤكدة لجملة ‏{‏إن هو إلا وحى‏}‏ مع دلالة المضارع على أن ما ينطق به متجدد وحيه غير منقطع‏.‏

ومتعلِّق ‏{‏يوحى‏}‏ محذوف تقديره‏:‏ إليه، أي إلى صاحبكم‏.‏

وتُرك فاعل الوحي لضرب من الإِجمال الذي يعقبه التفصيل لأنه سيرد بعده ما يبينه من قوله‏:‏ ‏{‏فأوحى إلى عبده ما أوحى‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏علمه شديد القوى‏}‏ الخ، مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان كيفية الوحي‏.‏

وضمير الغائب في ‏{‏علمه‏}‏ عائد إلى الوحي، أو إلى ما عاد إليه ضمير ‏{‏هو‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏إن هو إلا وحي‏}‏‏.‏ وضمير ‏{‏هو‏}‏ يعود إلى القرآن، وهو ضمير في محلّ أحد مفعولي ‏(‏علّم‏)‏ وهو المفعول الأول، والمفعول الثاني محذوف، والتقدير‏:‏ علمه إياه، يعود إلى ‏{‏صاحبكم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 2‏]‏ ويجوز جعل هاء ‏{‏علمه‏}‏ عائداً إلى ‏{‏صاحبكم‏}‏ والمحذوف عائد إلى ‏{‏وحى‏}‏ إبطالاً لقول المشركين ‏{‏إنما يعلمه بشر‏}‏ ‏[‏النحل‏:‏ 103‏]‏‏.‏

و ‏(‏علّم‏)‏ هنا مُتعدَ إلى مفعولين لأنه مضاعف ‏(‏عَلم‏)‏ المتعدي إلى مفعول واحد‏.‏

و ‏{‏شديد القوى‏}‏‏:‏ صفة لمحذوف يدل عليه ما يذكر بعد مما هو من شؤون الملائكة، أي مَلَك شديد القوى‏.‏

واتفق المفسرون على أن المراد به جبريل عليه السلام‏.‏

والمراد ب ‏{‏القوى‏}‏ استطاعة تنفيذ ما يأمر الله به من الأعمال العظيمة العقلية والجسمانية، فهو الملَك الذي ينزل على الرُّسل بالتبليغ‏.‏

والمِرَّة، بكسر الميم وتشديد الراء المفتوحة، تطلق على قوة الذات وتطلق على متانة العقل وأصالته، وهو المراد هنا لأنه قد تقدم قبله وصفه بشديد القوى، وتخصيص جبريل بهذا الوصف يشعر بأنه الملك الذي ينزل بفيوضات الحكمة على الرسل والأنبياء، ولذلك لما ناول الملَك رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلةَ الإِسراء كأس لَبن وكأسَ خمر، فاختار اللبن قَال له جبريل‏:‏ اخترتَ الفِطرة ولو أخذتَ الخمر غَوت أمتك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏فاستوى‏}‏ مفرع على ما تقدم من قوله‏:‏ ‏{‏علمه شديد القوى‏}‏‏.‏

والفاء لتفصيل ‏{‏علمه‏}‏، والمستوي هو جبريل‏.‏ ومعنى استوائه‏:‏ قيامه بعزيمة لتلقي رسالة الله، كما يقال‏:‏ استقل قائماً، ومثل‏:‏ بين يدي فلان، فاستواء جبريل هو مبدأ التهيُّؤ لقبول الرسالة من عند الله، ولذلك قيد هذا الاستواء بجملة الحال في قوله‏:‏ ‏{‏وهو بالأفق الأعلى‏}‏‏.‏ والضمير لجبريل لا محالة، أي قبل أن ينزل إلى العالم الأرضي‏.‏

والأفق‏:‏ اسم للجو الذي يبدو للناظر ملتقى بين طَرَف منتهى النظر من الأرض وبين منتهى ما يلوح كالقبة الزرقاء، وغلب إطلاقه على ناحية بعيدة عن موطن القوم ومنه أفق المشرق وأفق المغرب‏.‏

ووصفه ب ‏{‏الأعلى‏}‏ في هذه الآية يفيد أنه ناحية من جو السماء‏.‏ وذكر هذا ليرتب عليه قوله‏:‏ ‏{‏ثم دنا فتدلى‏}‏‏.‏

و ‏{‏ثم‏}‏ عاطفة على جملة ‏{‏فاستوى‏}‏، والتراخي الذي تقيده ‏{‏ثم‏}‏ تراخخٍ رتبيّ لأن الدنوّ إلى حيث يبلِّغ الوحيَ هو الأَهم في هذا المقام‏.‏

والدنوّ‏:‏ القرب، وإذ قد كان فعل الدنوّ قد عطف ب ‏{‏ثم‏}‏ على ‏{‏فاستوى وهو بالأفق الأعلى‏}‏ علم أنه دنا إلى العالم الأرضي، أي أخذ في الدنو بعد أن تلقى ما يبلغه إلى الرسول صلى الله عليه وسلم

وتدلّى‏:‏ انخفض من علو قليلاً، أي ينزل من طبقات إلى ما تحتها كما يتدلى الشيء المعلق في الهواء بحيث لو رآه الرائي يحسبه متدلياً، وهو ينزل من السماء غير منقضَ‏.‏

وقاب، قيل معناه‏:‏ قَدْر‏.‏ وهو واوي العين، ويقال‏:‏ قاب وقِيب بكسر القاف، وهذا ما درج عليه أكثر المفسرين‏.‏ وقيل يطلق القاب على ما بين مقبض القوس ‏(‏أي وسط عوده المقوس‏)‏ وما بين سِيتيْهَا ‏(‏أي طرفيها المنعطف الذي يشدّ به الوتَر‏)‏ فللقوس قابان وسِيتان، ولعل هذا الإِطلاق هو الأصل للآخر، وعلى هذا المعنى حمل الفراء والزمخشري وابن عطية وعن سعيد بن المسيّب‏:‏ القاب صدر القوس العربية حيث يشد عليه السير الذي يتنكبه صاحبه ولكل قوس قاب واحد‏.‏

وعلى كلا التفسيرين فقوله‏:‏ ‏{‏قاب قوسين‏}‏ أصله قابَيْ قوس أو قَابَيْ قوسين ‏(‏بتثنية أحد اللفظين المضاففِ والمضاف إليه، أو كليهما‏)‏ فوقع إفراد أحد اللفظين أو كليهما تجنباً لثقل المثنى كما في قوله تعالى‏:‏

‏{‏إن تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما‏}‏ ‏[‏التحريم‏:‏ 4‏]‏ أي قلباكما‏.‏

وقيل يطلق القوس في لغة أهل الحجاز على ذِراع يذرع به ‏(‏ولعله إذن مصدر قاس فسمي به ما يقاس به‏)‏‏.‏

والقوس‏:‏ آلة من عُودِ نَبْع، مقوسة يشد بها وتَر من جِلد ويرمي عنها السهام والنشاب وهي في مقدار الذراع عند العرب‏.‏

وحاصل المعنى أن جبريل كان على مسافة قوسين من النبي صلى الله عليه وسلم الدال عليه التفريع بقوله‏:‏ ‏{‏فأوحى إلى عبده ما أوحى‏}‏، ولعل الحكمة في هذا البعد أن هذه الصفة حكاية لصورة الوحي الذي كان في أوائل عهد النبي صلى الله عليه وسلم بالنبوءة فكانت قُواه البشرية يومئذٍ غير معتادة لتحمل اتصال القوة الملكية بها مباشرة رفقاً بالنبي صلى الله عليه وسلم أن لا يتجشم شيئاً يشق عليه، ألا ترى أنه لما اتصل به في غار حراء ولا اتصال وهو الذي عبر عنه في حديثه بالغطّ قال النبي صلى الله عليه وسلم ‏"‏ فغطّنِي حتى بلغ مني الجَهْد ‏"‏ ثم كانت تعتريه الحالة الموصوفة في حديث نزول أول الوحي المشار إليها في سورة المدثّر وسورة المزمّل قال تعالى‏:‏ ‏{‏إنا سنلقي عليك قولاً ثقيلاً‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 5‏]‏، ثم اعتاد اتصال جبريل به مباشرة فقد جاء في حديث عمر بن الخطاب في سؤال جبريل عن الإِيمان والإِسلام والإِحسان والساعة أنه «جلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأسند ركبتيه إلى ركبتيه» إذ كان النبي صلى الله عليه وسلم أيامئذٍ بالمدينة وقد اعتاد الوحي وفارقته شدته، ولمراعاة هذه الحكمة كان جبريل يتمثل للنبيء صلى الله عليه وسلم في صورة إنسان وقد وصفه عمر في حديث بيانِ الإِيمان والإِسلام بقوله‏:‏ «إذ دخل علينا رجل شديدُ بياض الثياب شديدُ سواد الشعر لا يُرى عليه أثر السفر ولا يعرفه منا أحد» الحديث، وأن النبي صلى الله عليه وسلم قال لهم بعد مفارقته ‏"‏ يا عمر أتدري من السائل‏؟‏ قال عمر‏:‏ الله ورسوله أعلم، قال‏:‏ «فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم ‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أو أدنى‏}‏ ‏{‏أو‏}‏ فيه للتخيير في التقدير، وهو مستعمل في التقريب، أي إن أراد أحد تقريب هذه المسافة فهو مخيّر بين أن يجعلها قاب قوسين أو أدنى، أي لا أزيد إشارة إلى أن التقدير لا مبالغة فيه‏.‏

وتفريع ‏{‏فأوحى إلى عبده ما أوحى‏}‏ على قوله‏:‏ ‏{‏فتدلى فكان قاب قوسين‏}‏ المفرّع على المفرّع على قوله‏:‏ ‏{‏علمه شديد القوى‏}‏، وهذا التفريع هو المقصود من البيان وما قبله تمهيد له، وتمثيل لأحوال عجيبة بأقرب ما يفهمه الناس لقصد بيان إمكان تلقّي الوحي عن الله تعالى إذ كان المشركون يحيلونه فبينّ لهم إمكان الوحي بوصف طريق الوحي إجمالاً، وهذه كيفية من صور الوحي‏.‏

وضمير ‏{‏أوحى‏}‏ عائد إلى الله تعالى المعلوم من قوله‏:‏ ‏{‏إن هو إلا وحي يوحى‏}‏ كما تقدم، والمعنى‏:‏ فأوحى الله إلى عَبده محمد صلى الله عليه وسلم وهذا كاففٍ في هذا المقام لأن المقصود إثبات الإِيحاء لإِبطال إنكارهم إياه‏.‏

وإيثار التعبير عن النبي صلى الله عليه وسلم بعنوان ‏{‏عبده‏}‏ إظهار في مقام الإِضمار في اختصاص الإِضافة إلى ضمير الجلالة من التشريف‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ما أوحى‏}‏ إبهام لتفخيم ما أوحى إليه‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏11- 12‏]‏

‏{‏مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى ‏(‏11‏)‏ أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى ‏(‏12‏)‏‏}‏

الأظهر أن هذا ردّ لتكذيب من المشركين فيما بلغهم من الخبر عن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم الملَك جبريل وهو الذي يؤذن به قوله بعد‏:‏ ‏{‏أفتمارونه على ما يرى‏}‏‏.‏

واللام في قوله‏:‏ ‏{‏الفؤاد‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي فؤاده وعليه فيكون تفريع الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أفتمارونه على ما يرى‏}‏ استفهاماً إنكارياً لأنهم مَارَوْه‏.‏

ويجوز أن يكون قوله‏:‏ ‏{‏ما كذب الفؤاد ما رأى‏}‏ تأكيداً لمضمون قوله‏:‏ ‏{‏فكان قاب قوسين‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 9‏]‏ فإنه يؤذن بأنه بمرأى من النبي صلى الله عليه وسلم لرفع احتمال المجاز في تشبيه القرب، أي هو قرب حسي وليس مجرد اتصال رُوحاني فيكون الاستفهام في قوله‏:‏ ‏{‏أفتمارونه على ما يرى‏}‏ مستعملاً في الفرض والتقدير، أي أفستكذبونه فيما يرى بعينيه كما كذبتموه فيما بلغكم عن الله، كما يقول قائل‏:‏ «أتحسبني غافلاً» وقول عمر بن الخطاب للعباس وعليّ في قضيتهما «أتحاولان مني قضاءً غير ذلك»‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ما كذب‏}‏ بتخفيف الذال، وقرأه هشام عن ابن عامر وأبو جعفر بتشديد الذال، والفاعل والمفعول على حالهما كما في قراءة الجمهور‏.‏

والفؤاد‏:‏ العقل في كلام العرب قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً‏}‏ ‏[‏القصص‏:‏ 10‏]‏‏.‏

والكذب‏:‏ أطلق على التخييل والتلبيس من الحواس كما يقال‏:‏ كذبته عينه‏.‏

و ‏{‏ما‏}‏ موصولة، والرابط محذوف، وهو ضمير عائد إلى ‏{‏عبده‏}‏ في قوله‏:‏ ‏{‏فأوحى إلى عبده‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10‏]‏ أي ما رآه عبده ببصره‏.‏

وتفريع ‏{‏أفتمارونه‏}‏ على جملة ‏{‏ما كذب الفؤاد ما أرى‏}‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏أفتمارونه‏}‏ من المماراة وهي الملاحاة والمجادلة في الإِبطال‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ويعقوب وخلف ‏{‏أفتمرونه‏}‏ بفتح الفوقية وسكون الميم مضارع مَرَاه إذا جحده، أي أتجحدونه أيضاً فيما رأى، ومعنى القراءتين متقارب‏.‏

وتعدية الفعل فيهما بحرف الاستعلاء لتضمنه معنى الغلبة، أي هَبْكُم غالبتموه على عبادتكم الآلهة، وعلى الإِعراض عن سماع القرآن ونحو ذلك أتغلبونه على ما رأى ببصره‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 18‏]‏

‏{‏وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى ‏(‏13‏)‏ عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى ‏(‏14‏)‏ عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى ‏(‏15‏)‏ إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى ‏(‏16‏)‏ مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى ‏(‏17‏)‏ لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى ‏(‏18‏)‏‏}‏

أي إن كنتم تجحدون رؤيته جبريل في الأرض فلقد رآه رؤية أعظم منها إذ رآه في العالم العلوي مصاحِباً، فهذا من الترقي في بيان مراتب الوحي، والعطف عطف قصة على قصة ابتدئ بالأضعف وعقب بالأقوى‏.‏

فتأكيد الكلام بلام القسم وحرف التحقيق لأجل ما في هذا الخبر من الغرابة من حيث هو قد رأى جبريل ومن حيث أنه عَرج به إلى السماء ومن الأهمية من حيث هو دال على عظيم منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فضمير الرفع في ‏{‏رءاه‏}‏ عائد إلى ‏{‏صاحبكم‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 2‏]‏، وضمير النصب عائد إلى جبريل‏.‏

و ‏{‏نزلة‏}‏ فَعلة من النزول فهو مصدر دال على المرة‏:‏ أي في مكان آخر من النزول الذي هو الحلول في المكان، ووصفها ب ‏{‏أخرى‏}‏ بالنسبة لما في قوله‏:‏ ‏{‏ثم دنا فتدلى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 8‏]‏ فإن التدلِّي نزول بالمكان الذي بلغ إليه‏.‏

وانتصاب ‏{‏نزلة‏}‏ على نزع الخافض، أو على النيابة عن ظرف المكان، أو على حذف مضاف بتقدير‏:‏ وقت نزلة أخرى، فتكون نائباً عن ظرف الزمان‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏عند سدرة المنتهى‏}‏ متعلق ب ‏{‏رءاه‏}‏‏.‏ وخُصت بالذكر رؤيته عند سدرة المنتهى لعظيم شرف المكان بما حصل عنده من آيات ربه الكبرى ولأنها منتهى العروج في مراتب الكرامة‏.‏

و ‏{‏سدرة المنتهى‏}‏‏:‏ اسْم أطلقه القرآن على مكان علوي فوق السماء السابعة، وقد ورد التصريح بها في حديث المعراج من الصحاح عن جمع من الصحابة‏.‏

ولعله شُبه ذلك المكان بالسدرة التي هي واحدة شجر السدر إما في صفة تفرعه، وإما في كونه حداً انتهى إليه قرب النبي صلى الله عليه وسلم إلى موضع لم يبلغه قبله ملَك‏.‏ ولعله مبني على اصطلاح عندهم بأن يجعلوا في حدود البقاع سدراً‏.‏

وإضافة ‏{‏سدرة‏}‏ إلى ‏{‏المنتهى‏}‏ يجوز أن تكون إضافة بيانية‏.‏ ويجوز كونها لتعريف السدرة بمكان ينتهي إليه لا يتجاوزه أحد لأن ما وراءه لا تطيقه المخلوقات‏.‏

والسدرة‏:‏ واحدة السدر وهو شجر النبق قالوا‏:‏ ويختص بثلاثة أوصاف‏:‏ ظل مديد، وطعم لذيذ، ورائحة ذكية، فجعلت السدرة مثلاً لذلك المكان كما جُعلت النخلة مثلاً للمؤمِن‏.‏

وفي قوله‏:‏ ‏{‏ما يغشى‏}‏ إبهام للتفخيم الإجمالي وأنه تضيق عنه عبارات الوصف في اللغة‏.‏

وجنة المأوى‏:‏ الجنة المعروفة بأنها مأوى المتقين فإن الجنة منتهى مراتب ارتقاء الأرواح الزكية‏.‏ وفي حديث الإِسراء بعد ذكر سدرة المنتهى ‏"‏ ثم أدخلت الجنة ‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذ يغشى السدرة ما يغشى‏}‏ ظرف مستقر في موضع الحال من ‏{‏سدرة المنتهى‏}‏ أريد به التنويه بما حفّ بهذا المكان المسمى سدرة المنتهى من الجلال والجمال‏.‏ وفي حديث الإِسراء ‏"‏ حتى انتهَى بي إلى سدرة المنتهى وغشيها ألوان لا أدري ما هي» وفي رواية «غشيها نور من اللَّه ما يستطيع أحد أن ينظر إليها ‏"‏

وما حصل فيه للنبي صلى الله عليه وسلم من التشريف بتلقّي الوحي مباشرة من الله دون واسطة الملَك ففي حديث الإِسراء «حتى ظَهرت بمستوىً أسمع فيه صريف الأقلام ففرض الله على أمتي خمسين صلاة» الحديث‏.‏

وجملة ‏{‏ما زاغ البصر وما طغى‏}‏ معترضة وهي في معنى جملة ‏{‏ولقد رءاه نزلة أخرى‏}‏ إلى آخرها، أي رأى جبريل رؤية لا خطأ فيها ولا زيادة على ما وصف، أي لا مبالغة‏.‏

والزيع‏:‏ الميل عن القصد، أي ما مال بصره إلى مرئي آخر غير ما ذكر، والطغيان‏:‏ تجاوز الحد‏.‏

وجملة ‏{‏لقد رأى من آيات ربه الكبرى‏}‏ تذييل، أي رأى آيات غير سدرة المنتهى، وجنة المأوى، وما غَشى السدرة من البهجة والجلال، رأى من آيات الله الكبرى‏.‏

والآيات‏:‏ دلائل عظمة الله تعالى التي تزيد الرسول ارتفاعاً‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏19- 23‏]‏

‏{‏أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى ‏(‏19‏)‏ وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى ‏(‏20‏)‏ أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى ‏(‏21‏)‏ تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى ‏(‏22‏)‏ إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآَبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى ‏(‏23‏)‏‏}‏

‏{‏أَفَرَءَيْتُمُ اللات والعزى * ومناة الثالثة الاخرى * أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الانثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى إِنْ هِىَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أنتُمْ وءابَاؤُكُم مَّا أنزَلَ اللهُ بِهَا مِنْ سُلْطَان‏}‏‏.‏

لما جرى في صفة الوحي ومشاهدة رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل عليه السلام ما دل على شؤون جليلة من عظمة الله تعالى وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وشرف جبريل عليه السلام إذ وصف بصفات الكمال ومنازل العزة كما وصف النبي صلى الله عليه وسلم بالعروج في المنازل العليا، كان ذلك مما يثير موازنة هذه الأحوال الرفيعة بحال أعظم آلهتهم الثلاث في زعمهم وهي‏:‏ اللاتُ، والعزَّى، ومناةُ التي هي أحجار مقرّها الأرض لا تملك تصرفاً ولا يعرج بها إلى رفعة‏.‏ فكان هذا التضاد جامعاً خيالياً يقتضي تعقيب ذكر تلك الأحوال بذكر أحوال هاته‏.‏

فانتقل الكلام من غرض إثبات أن النبي صلى الله عليه وسلم موحىً إليه بالقرآن، إلى إبطال عبادة الأصنام، ومناط الإِبطال قوله‏:‏ ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم وآباءكم ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏‏.‏

فالفاء لتفريع الاستفهام وما بعده على جملة ‏{‏أفتمارونه على ما يرى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 12‏]‏ المفرعة على جملة ‏{‏ما كذب الفؤاد ما رأى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 11‏]‏‏.‏

والروية في ‏{‏أفرأيتم‏}‏ يجوز أن تكون بَصَرية تتعدّى إلى مفعول واحد فلا تطلب مفعولاً ثانياً ويكون الاستفهام تقريرياً تهكمياً، أي كيف ترون اللات والعزّى ومناةَ بالنسبة لما وصف في عظمة الله تعالى وشرف ملائكته وشرف رسوله صلى الله عليه وسلم وهذا تهكم بهم وإبطال لإِلهية تلك الأصنام بطريق الفحوى، ودليله العيان‏.‏ وأكثر استعمال «أرأيت» أن تكون للرؤية البصرية على ما اختاره رضيّ الدين‏.‏

وتكون جملة ‏{‏ألكم الذكر‏}‏ الخ استئنافاً وارتقاء في الرد أو بَدلَ اشتمال من جملة ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ لأن مضمونها مما تشتمل عليه مزاعمهم، كانوا يزعمون أن اللات والعزى ومناة بنات الله كما حكى عنهم ابن عطية وصاحب «الكشاف» وسياق الآيات يقتضيه‏.‏

ويجوز أن تكون الرؤية علمية، أي أزعمتم اللات والعزى ومناةَ، فحذف المفعول الثاني اختصاراً لدلالة قوله‏:‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ عليه، والتقدير‏:‏ أزعمتموهن بنات الله، أتجعلون له الأنثى وأنتم تبتغون الأبناء الذكور، وتكون جملة ‏{‏ألكم الذكر‏}‏ الخ بياناً للإِنكار وارتقاء في إبطال مزاعمهم، أي أتجعلون لله البنات خاصة وتغتبطون لأنفسكم بالبنين الذكور‏.‏

وجعل صاحب «الكشْف» قوله‏:‏ ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ سادًّا مسدَّ المفعول الثاني لفعل «أرأيتم»‏.‏

وأيضاً لما كان فيما جرى من صفة الوحي ومنازل الزلفى التي حظي بها النبي صلى الله عليه وسلم وعظمة جبريل إشعار بسعة قدرة الله تعالى وعظيم ملكوته مما يسجِّل على المشركين في زعمهم شركاء لله أصناماً مثل اللات والعزى ومناة‏.‏

فسادَ زعمهم وسفاهة رأيهم أعقب ذكر دلائل العظمة الإِلهية بإبطال إلهية أصنامهم بأنها أقل من مرتبة الإِلهية إذ تلك أوهام لا حقائق لها ولكن اخترعتها مُخيّلات أهل الشرك ووضعوا لها أسماء ما لها حقائق، ففرّع ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ الخ فيكون الاستفهام تقريرياً إنكاريًّا، والرؤية علميةَ والمفعول الثاني هو قوله‏:‏ ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها‏}‏‏.‏ 5

وتكون جملة ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ الخ معترضة بين المفعولين للارتقاء في الإِنكار، أي وزعمتوهن بنات لله أو وزعمتم الملائكة بنات لله‏.‏

وهذه الوجوه غير متنافية فنحملها على أن جميعها مقصود في هذا المقام‏.‏

ولك أن تجعل فعل «أرأيتم» ‏(‏على اعتبار الرؤية علمية‏)‏ معلّقاً عن العمل لوقوع ‏{‏إنْ‏}‏ النافية بعده في قوله‏:‏ ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها‏}‏ وتجعل جملة ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ إلى قوله‏:‏ ‏{‏ضيزى‏}‏ اعتراضاً‏.‏

واللاتُ‏:‏ صنم كان لثقيف بالطائف، وكانت قريش وجمهور العرب يعبدونه، وله شهرة عند قريش، وهو صخرة مربعة بنوا عليها بناء‏.‏ وقال الفخر‏:‏ «كان على صورة إنسان، وكان في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى» كذا قال القرطبي فلعل المسجد كانت له منارتان‏.‏

والألف واللام في أول ‏{‏اللات‏}‏ زائدتان‏.‏ و‏(‏ال‏)‏ الداخلة عليه زائدة ولعل ذلك لأن أصله‏:‏ لاَتْ، بمعنى معبود، فلما أرادوا جعله علماً على معبود خاص أدخلوا عليه لام تعريف العهد كما في ‏{‏الله‏}‏ فإن أصله إله‏.‏ ويوقف عليه بسكون تائه في الفصحى‏.‏

وقرأ الجمهور‏:‏ ‏{‏اللات‏}‏ بتخفيف المثناة الفوقية‏.‏ وقرأه رويس عن يعقوب بتشديد التاء وذلك لغة في هذا الاسم لأن كثيراً من العرب يقولون‏:‏ أصل صخرته موضع كان يجلس عليه رجل في الجاهلية يلتّ السويق للحاج فلما مات اتخذوا مكانه معبداً‏.‏

و ‏{‏العُزى‏}‏‏:‏ فُعلَي من العِزّ‏:‏ اسم صنم حجر أبيض عليه بناء وقال الفخر‏:‏ «كان على صورة نبات» ولعله يعني‏:‏ أن الصخرة فيها صورة شجر، وكان ببطن نخلة فوق ذات عرق وكان جمهور العرب يعبدونها وخاصة قريش وقد قال أبو سفيان يوم أُحد يخاطب المسلمين «لنا العزى ولا عزى لكم»‏.‏

وذكر الزمخشري في تفسير سورة الفاتحة أن العرب كانوا إذا شَرعوا في عمل قالوا‏:‏ بسم اللات باسم العزى‏.‏

وأما ‏{‏مناة‏}‏ فعَلَم مرتجل، وهو مؤنث فحقه أن يكتب بهاء تأنيث في آخره ويوقف عليه بالهاء، ويكون ممنوعاً من الصرف، وفيه لغة بالتاء الأصلية في آخره فيوقف عليه بالتاء ويكون مصروفاً لأن تاء لات مثل باء باب، وأصله‏:‏ مَنَواة بالتحريك وقد يمد فيقال‏:‏ منآة وهو ممنوع من الصرف للعلمية والتأنيث‏.‏ وقياس الوقف عليه أن يوقف عليه بالهاء، وبعضهم يقف عليه بالتاء تبعاً لخط المصحف، وكان صخرة وقد عبده جمهور العرب وكان موضعه في المشلل حذوَ قديد بين مكة والمدينة، وكان الأوس والخزرج يطوفون حَوله في الحج عوضاً عن الصفا والمروة فلما حج المسلمون وسعَوا بين الصفا والمروة تحرج الأنصار من السعي لأنهم كانوا يسعون بين الصفا والمروة فنزل فيهم قوله تعالى‏:‏

‏{‏إن الصفا والمروة من شعائر اللَّه فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما كما تقدم عن حديث عائشة في الموطأ‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏158‏)‏‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ومناة‏}‏ بتاء بعد الألف‏.‏ وقرأه ابن كثير بهمزة بعد الألف على إحدى اللغتين‏.‏ والجمهور يقفون عليه بالتاء تبعاً لرسم المصحف فتكون التاء حرفاً من الكلمة غير علامة تأنيث فهي مثل تاء ‏{‏اللات‏}‏ ويجعلون رسمها في المصحف على غير قياس‏.‏

ووصفها بالثالثة لأنها ثالثة في الذّكر وهو صفة كاشفة، ووصفها بالأخرى أيضاً صفة كاشفة لأن كونها ثالثة في الذكر غير المذكورتين قبلها معلوم للسامع، فالحاصل من الصفتين تأكيدٌ ذكرها لأن اللات والعزى عند قريش وعند جمهور العرب أشهر من مناة لبعد مكان مناة عن بلادهم ولأن ترتيب مواقع بيوت هذه الأصنام كذلك، فاللات في أعْلى تهامة بالطائف، والعُزَّى في وسطها بنخلةَ بين مكة والطائف، ومناة بالمُشلل بين مكة والمدينة فهي ثالثة البقاع‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ كانت مناة أعظم هذه الأوثان قدراً وأكثرها عابداً ولذلك قال تعالى‏:‏ ‏{‏الثالثة الأخرى‏}‏ فأكدها بهاتين الصفتين‏.‏

والأحسن أن قوله‏:‏ ‏{‏الثالثة الأخرى‏}‏ جرى على أسلوب العرب إذا أخبروا عن متعدد وكان فيه من يظنّ أنه غير داخل في الخبر لعظمة أو تباعد عن التلبس بمثل ما تلبس به نظراؤه أن يختموا الخبر فيقولوا‏:‏ «وفلانٌ هو الآخَر» ووجهه هنا أن عُبَّاد مناة كثيرون في قبائل العرب فنبه على أن كثرة عبدتها لا يزيدها قوة على بقية الأصنام في مقام إبطال إلهيتها وكل ذلك جار مجرى التهكم والتسفيه‏.‏

وجملة ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ ارتقاء في الإِبطال والتهكم والتسفيه كما تقدم، وهي مجاراة لاعتقادهم أن تلك الأصنام الثلاثة بنات الله وأن الملائكة بنات الله، أي أجعلتم لله البنات خاصة وأنتم تعلمون أن لكم أولاداً ذكوراً وإناثاً وأنكم تفضلون الذكور وتكرهون الإِناث وقد خصصتم الله بالإِناث دون الذكور والله أولَى بالفضل والكماللِ لو كنتم تعلمون فكان في هذا زيادة تشنيع لكفرهم إذ كان كفراً وسخافة عقل‏.‏

وكون العزَّى ومناة عندهم انثتين ظاهر من صيغة اسميهما، وأما اللات فبقطع النظر عن اعتبار التاء في الاسم علامة تأثيث أو أصلاً من الكلمة فهم كانوا يتوهمون اللات أنثى، ولذلك قال أبو بكر رضي الله عنه لعُروة بن مسعود الثقفي يوم الحُديبية «امصُصْ أو اعضُضْ بَظْرَ اللات»‏.‏

وتقديم المجرورين في ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ للاهتمام بالاختصاص الذي أفادته اللام اهتماماً في مقام التهكم والتسفيه على أن في تقديم ‏{‏وله الأنثى‏}‏ «إفادة الاختصاص» أي دون الذكر‏.‏

وجملة ‏{‏تلك إذا قسمة ضيزى‏}‏ تعليل للإنكار والتهكم المفاد من الاستفهام في ‏{‏ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏، أي قد جرتُم في القسمة وما عدلتم فأنتم أحقاء بالإِنكار‏.‏

والإِشارة ب ‏{‏تلك‏}‏ إلى المذكور باعتبار الإِخبار عنه بلفظ ‏{‏قسمة‏}‏ فإنه مؤنث اللفظ‏.‏

و ‏{‏إذن‏}‏ حرف جواب أريد به جواب الاستفهام الإِنكاري، أي ترتب على ما زعمتم أن ذلك قسمة ضِيزى، أي قسمتم قسمة جائرة‏.‏

و ‏{‏ضيزى‏}‏‏:‏ وزنه فُعْلى بضم الفاء من ضازة حَقَّه، إذا نقصه، وأصل عين ضاز همزة، يقال‏:‏ ضَأَزه حقه كمنعه ثم كثر في كلامهم تخفيف الهمزة فقالوا‏:‏ ضَازهُ بالألف‏.‏ ويجوز في مضارعه أن يكون يائي العين أو واويها قال الكسائي‏:‏ يجوز ضَاز يضِيز، وضَاز يضُوز‏.‏ وكأنه يريد أن لك الخيار في المهموز العين إذا خفف أن تُلحقه بالواو أو الياء، لكن الأكثر في كلامهم اعتبار العين ياء فقالوا‏:‏ ضَازه حقه ضَيْزاً ولم يقولوا ضَوْزاً لأن الضوز لوك التمر في الفم، فأرادوا التفرقة بين المصدرين، وهذا من محاسن الاستعمال وعن المؤرّج السَّدُوسي كرهوا ضم الضاد في ضوزى فقالوا‏:‏ ضيزى‏.‏ كأنه يريد استثقلوا ضم الضاد، أي في أول الكلمة مع أن لهم مندوحة عنه بالزنة الأخرى‏.‏

ووزن ‏{‏ضيزى‏}‏‏:‏ فُعْلى اسم تفضيل ‏(‏مثل كُبْرى وطُوبى‏)‏ أي شديدة الضيز فلما وقعت الياء الساكنة بعد الضمة حرّكوه بالكسر محافظة على الياء لئلا يقلبوها واواً فتصير ضوزى وهو ما كرهوه كما قال المؤرج‏.‏ وهذا كما فعلوا في بيض جمع أبيض ولو اعتبروه تفضيلاً من ضاز يضوز لقالوا‏:‏ ضُوزى ولكنهم أهملوه‏.‏

وقيل‏:‏ وزن ‏{‏ضِيزى‏}‏ فِعلى بكسر الفاء على أنه اسم مثل دِفلى وشِعْرى، ويبعِّد هذا أنه مشتق فهو بالوصفية أجدر‏.‏ قال سيبويه‏:‏ لا يوجد فِعلَى بكسر الفاء في الصفات، أو على أنه مصدر مثل ذِكرى وعلى الوجهين كسرته أصلية‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏ضيزى‏}‏ بياء ساكنة بعد الضاد‏.‏ وقرأه ابن كثير بهمزة ساكنة بعد الضاد مراعاة لأصل الفعل كما تقدم آنفاً‏.‏ وهذا وسم لهم بالجور زيادة على الكفر لأن التفكير في الجور كفعله فإن تخيلات الإِنسان ومعتقداته عنوان على أفكاره وتصرفاته‏.‏

وجملة ‏{‏إن هي إلا أسماء سميتموها‏}‏ استئناف يكر بالإِبطال على معتقدهم من أصله بعد إبطاله بما هو من لوازمه على مجاراتهم فيه لإِظهار اختلال معتقدهم وفي هذه الجملة احتراس لئلا يتوهم مُتَوَهم إنكار نسبتهم البنات لله إنه إنكار لتخصيصهم الله بالبنات وأن له أولاداً ذكوراً وإناثاً أو أن مصب الإِنكار على زعمهم أنها بنات وليست ببنات فيكون كالإِنكار عليهم في زعمهم الملائكة بنات‏.‏ والضمير ‏{‏هي‏}‏ عائد إلى اللات والعزى ومناةَ‏.‏ وَمَا صدق الضمير الذات والحقيقة، أي ليست هذه الأصنام إلا أسماءُ لا مسمّياتتٍ لها ولا حقائق ثابتة وهذا كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 40‏]‏‏.‏

والقصر إضافي، أي هي أسماء لا حقائق عاقِلة متصرفة كما تزعمون، وليس القصر حقيقياً لأنّ لهاته الأصنام مسميات وهي الحجارة أو البيوت التي يقصدونها بالعبادة ويجعلون لها سدنة‏.‏

وجملة ‏{‏ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ تعليل لمعنى القصر بطريقة الاكتفاء لأن كونها لا حقائق لها في عالم الشهادة أمر محسوس إذ ليست إلا حجارة‏.‏

وأما كونها لا حقائق لها من عالم الغيب فلأن عالم الغيب لا طريق إلى إثبات ما يحتويه إلا بإعلام من عالم الغيب سبحانه، أو بدليل العقل كدلالة العالم على وجود الصانع وبعض صفاته والله لم يخبر أحداً من رسله بأن للأصنام أرواحاً أو ملائكة، مثل ما أخبر عن حقائق الملائكة والجن والشياطين‏.‏

والسلطان‏:‏ الحجة، وإنزالها من الله‏:‏ الإِخبار بها، وهذا كناية عن انتفاء أن تكون عليها حجة لأن وجود الحجة يستلزم ظهورها، فنفي إنزال الحجة بها من باب‏:‏

على لاحب لا يهتدي بمناره *** أي لا منار له فيهتدى به‏.‏

وعبر عن الإِخبار الموحَى به بفعل ‏(‏أنزل‏)‏ لأنه إخبار يَرد من العالم العلوي فشُبّه بإدلاء جسم من أعلى إلى أسفل‏.‏

وكذلك عُبّر عن إقامة دلائل الوجود بالإِنزال لأن النظر الفكري من خلق الله فشبه بالإِنزال كقوله‏:‏ ‏{‏هو الذي أنزل السكينة في قلوب المؤمنين‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏، فاستعمال ‏{‏ما أنزل الله بها من سلطان‏}‏ من استعمال اللفظ في معنييه المجازيَيْن‏.‏ وفي معنى هذه الآية قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويعبدون من دون اللَّه ما لم ينزل به سلطاناً وما ليس لهم به علم‏}‏ في سورة الحج ‏(‏71‏)‏، وتقدم في سورة يوسف ‏(‏40‏)‏ قوله‏:‏ ‏{‏ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل اللَّه بها من سلطان‏}‏ وأكد نفي إنزال السلطان بحرف ‏(‏من‏)‏ الزائدة لتوكيد نفي الجنس‏.‏

‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الانفس وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهُدَى‏}‏‏.‏

هذا تحويل عن خطاب المشركين الذي كان ابتداؤه من أول السورة وهو من ضروب الالتفات، وهو استئناف بياني فضمير ‏{‏يتبعون‏}‏ عائد إلى الذين كان الخطاب موجهاً إليهم‏.‏

أعقب نفي أن تكون لهم حجة على الخصائص التي يزعمونها لأصنافهم أو على أن الله سماهم بتلك الأسماء بإثبات أنهم استندوا فيما يزعمونه إلى الأوهام وما تحبه نفوسهم من عبادة الأصنام ومحبة سدنتها ومواكب زيارتها، وغرورهم بأنها تسعى في الوساطة لهم عند الله تعالى بما يرغبونه في حياتهم فتلك أوهام وأمانيَّ محبوبة لهم يعيشون في غرورها‏.‏

وجيء بالمضارع في ‏{‏يتبعون‏}‏ للدلالة على أنهم سيسمرُّون على اتباع الظن وما تهواه نفوسهم وذلك يدل على أنهم اتبعوا ذلك من قبل بدلالة لحن الخطاب أو فحواه‏.‏

وأصل الظن الاعتقاد غير الجازم، ويطلق على العلم الجازم إذا كان متعلقاً بالمغيبات كما في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏46‏)‏، وكثر إطلاقه في القرآن على الاعتقاد الباطل كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظن وإن هم إلا يخرصون‏}‏

في سورة الأنعام ‏(‏116‏)‏، ومنه قول النبي‏:‏ إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث وهو المراد هنا بقرينة عطف وما تهوى الأنفس‏}‏ عليه كما عطف ‏{‏وإن هم إلا يخرصون‏}‏ على نظيره في سورة الأنعام، وهو كناية عن الخطأ باعتبار لزومه له غالباً كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن إن بعض الظن إثم‏}‏ ‏[‏الحجرات‏:‏ 12‏]‏‏.‏

وهذا التفنن في معاني الظن في القرآن يشير إلى وجوب النظر في الأمر المظنون حتى يلحقه المسلم بما يناسبه من حُسن أو ذم على حسب الأدلة، ولذلك استنبط علماؤنا أن الظن لا يغني في إثبات أصول الاعتقاد وأن الظن الصائب تناط به تفاريع الشريعة‏.‏

والمراد ب ‏{‏ما تهوى الأنفس‏}‏‏:‏ ما لا باعث عليه إلا الميل الشهواني، دون الأدلة فإن كان الشيء المحبوب قد دلت الأدلة على حقيقته فلا يزيده حُبه إلا قبولاً كما قال النبي صلى الله عليه وسلم «ورجلان تحابَّا في الله اجتمعا عليه وافترقا عليه، ورجل قلبه معلق بالمساجد» وقال‏:‏ «وجعلت قُرّة عيني في الصلاة»‏.‏ فمناط الذم في هذه الآية هو قصر اتباعهم على ما تهواه أنفسهم‏.‏

ثم إن للظن في المعاملات بين الناس والأخلاق النفسانية أحكاماً ومراتب غير ما له في الديانات أصولها وفروعها، فمنه محمود ومنه مذموم، كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏إن بعض الظن إثم‏}‏ وقيل‏:‏ الحزم سوء الظن بالناس‏.‏

والتعريف في ‏{‏الأنفس‏}‏ عوض عن المضاف إليه، أي وما تهواه أنفسهم و‏{‏ما‏}‏ موصولة‏.‏

وعطف ‏{‏وما تهوى الأنفس‏}‏ على الظن عطف العلة على المعلول، أي الظن الذي يبعثهم على إتباعه أنه موافق لهداهم وإلفهم‏.‏

وجملة ‏{‏ولقد جاءهم من ربهم الهدى‏}‏ حالية مقررة للتعجيب من حالهم، أي يستمرون على اتباع الظن والهوى في حال أن الله أرسل إليهم رسولاً بالهدى‏.‏

ولام القسم لتأكيد الخبر للمبالغة فيما يتضمنه من التعجيب من حالهم كأن المخاطب يشك في أنه جاءهم ما فيه هدى مقنع لهم من جهة استمرارهم على ضلالهم استمراراً لا يظن مثله بعاقل‏.‏

والتعبير عن الجلالة بعنوان ‏{‏ربهم‏}‏ لزيادة التعجيب من تصاممهم عن سماع الهدى مع أنه ممن تجب طاعته فكان ضلالهم مخلوطاً بالعصيان والتمرد على خالقهم‏.‏

والتعريف في ‏{‏الهدى‏}‏ للدلالة على معنى الكمال، أي الهدى الواضح‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏24- 25‏]‏

‏{‏أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى ‏(‏24‏)‏ فَلِلَّهِ الْآَخِرَةُ وَالْأُولَى ‏(‏25‏)‏‏}‏

إضراب انتقالي ناشئ عن قوله‏:‏ ‏{‏وما تهوى الأنفس‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏‏.‏

والاستفهام المقدّر بعد ‏{‏أم‏}‏ إنكاريّ قصد به إبطال نوال الإِنسان ما يتمناه وأن يجعل ما يتمناه باعثاً عن أعماله ومعتقداته بل عليه أن يتطلب الحق من دلائله وعلاماته وإن خالف ما يتمناه‏.‏ وهذا متصل بقوله‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس ولقد جاءهم من ربهم الهدى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 23‏]‏‏.‏

وهذا تأديب وترويض للنفوس على تحمل ما يخالف أهواءها إذا كان الحق مخالفاً للهوى وليحمل نفسه عليه حتى تتخلق به‏.‏

وتعريف ‏{‏الإنسان‏}‏ تعريف الجنس ووقوعه في حيّز الإِنكار المساوي للنفي جَعلَه عاماً في كل إنسان‏.‏

والموصول في ‏{‏ما تمنى‏}‏ بمنزلة المعرّف بلام الجنس فوقوعه في حيّز الاستفهام الإِنكاري الذي بمنزلة النفي يقتضي العموم، أي ما للإِنسان شيء مما تمنّى، أي ليس شيء جارياً على إرادته بل على إرادة الله وقد شمل ذلك كل هوى دعاهم إلى الإعراض عن كلام الرسول صلى الله عليه وسلم فشمل تمنيهم شفاعة الأصنام وهو الأهم من أحوال الأصنام عندهم وذلك ما يؤذن به قوله بعد هذا ‏{‏وكم من ملك في السموات لا تغنى شفاعتهم شيئاً‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 26‏]‏ الآية‏.‏ وتمنيَهم أن يكون الرسول ملَكاً وغير ذلك نحو قولهم‏:‏ ‏{‏لولا نزل هذا القرآن على رجل من القريتين عظيم‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 31‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏ائت بقرآن غير هذا أو بدله‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 15‏]‏‏.‏

وفُرع على الإِنكار أن الله مالك الآخرة والأولى، أي فهو يتصرف في أحوال أهلهما بحسب إرادته لا بحسب تمني الإِنسان‏.‏ وهذا إبطال لمعتقدات المشركين التي منها يقينهم بشفاعة أصنامهم‏.‏

وتقديم المجرور في ‏{‏للإنسان ما تمنى‏}‏، لأن محط الإِنكار هو أمنيتهم أن تجري الأمور على حسب أهوائهم فلذلك كانوا يُعرضون عن كل ما يخالف أهواءهم‏.‏ فتقديم المعمول هنا لإِفادة القصر وهو قصر قلب، أي ليس ذلك مقصوراً عليهم كما هو مقتضى حالهم فنزلوا منزلة من يرون الأمور تجري على ما يتمنّون، أي بل أماني الإِنسان بيد الله يعطي بعضها ويمنع بعضها كما دل عليه التفريع عقبه بقوله‏:‏ ‏{‏فللَّه الآخرة والأولى‏}‏‏.‏

وهذا من معاني الحكمة لأن رغبة الإِنسان في أن يكون ما يتمناه حاصلاً رغبة لو تبصّر فيها صاحبها لوجد تحقيقها متعذراً لأن ما يتمناه أحد يتمناه غيره فتتعارض الأماني فإذا أُعطي لأحد ما يتمنّاه حُرم من يتمنَّى ذلك معه فيفضي ذلك إلى تعطيل الأمنيتين بالأخارة، والقانون الذي أقام الله عليه نظام هذا الكون أن الحظوظ مقسمة، ولكل أحد نصيب، ومن حق العاقل أن يتخلق على الرضى بذلك وإلا كان الناس في عيشة مريرة‏.‏ وفي الحديث «لا تَسْأَللِ المرأةُ طلاق أختها لتستفرغ صحفتها ولتقعُد فإن لها ما كُتب لها»‏.‏ وتفريع ‏{‏فللَّه الآخرة والأولى‏}‏ تصريح بمفهوم القصر الإِضافي كما علمت آنفاً‏.‏ وتقديم المجرور لإِفادة الحصر، أي لله لا للإِنسان‏.‏

و ‏{‏الآخرة‏}‏ العالم الأخروي، و‏{‏الأولى‏}‏ العالم الدنيوي‏.‏ والمراد بهما ما يحتويان عليه من الأمور، أي أمور الآخرة وأمور الأولى، والمقصود من ذكرهما تعميم الأشياء مثل قوله‏:‏ ‏{‏رب المشرقين ورب المغربين‏}‏ ‏[‏الرحمن‏:‏ 17‏]‏‏.‏

وإنما قدمت الآخرة للاهتمام بها والتثنية إلى أنها التي يجب أن يكون اعتناء المؤمنين بها لأن الخطاب في هذه الآية للنبيء صلى الله عليه وسلم والمسلمين، مع ما في هذا التقديم من الرعاية للفاصلة‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏26‏]‏

‏{‏وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى ‏(‏26‏)‏‏}‏

لما بين الله أن أمور الدارين بيد الله تعالى وأن ليس للإِنسان ما تمنّى، ضَرب لذلك مِثالاً من الأماني التي هي أعظم أمانيّ المشركين وهي قولهم في الأصنام ‏{‏ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى اللَّه زلفى‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 3‏]‏، وقولهم‏:‏ ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه‏}‏ ‏[‏يونس‏:‏ 18‏]‏، فبينّ إبطال قولهم بطريق فحوى الخطاب وهو أن الملائكة الذين لهم شرف المنزلة لأن الملائكة من سكان السماوات ‏(‏فهم لا يستطيعون إنكار أنهم أشرف من الأصنام‏)‏ لا يملكون الشفاعة إلا إذا أذن الله أن يشفع إذا شاء أن يقبل الشفاعة في المشفوع له، فكيف يكون للمشركين ما تمنوا من شفاعة الأصنام للمشركين الذين يقولون ‏{‏هؤلاء شفعاؤنا عند اللَّه‏}‏ وهي حجارة في الأرض وليست ملائكة في السماوات، فثبت أن لا شفاعة إلا لمن شاء الله، وقد نفي الله شفاعة الأصنام فبطل اعتقاد المشركين أنهم شفعاؤهم، فهذه مناسبة عطف هذه الجملة على جملة ‏{‏أم للإنسان ما تمنى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 24‏]‏‏.‏ وليس هذا الانتقال اقتضاباً لبيان عظم أمر الشفاعة‏.‏

و ‏{‏كم‏}‏ اسم يدل على كثرة العدد وهو مبتدأ والخبر ‏{‏لا تغني شفاعتهم‏}‏‏.‏

وقد تقدم الكلام على ‏{‏كم‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة‏}‏ في سورة البقرة ‏(‏211‏)‏، وقوله‏:‏ ‏{‏وكم من قرية أهلكناها‏}‏ في الأعراف ‏(‏4‏)‏‏.‏

وفي ‏{‏السموات‏}‏ صفة ل ‏{‏ملك‏}‏‏.‏ والمقصود منها بيان شرفهم بشرف العالم الذي هم أهله، وهو عالم الفضائل ومنازل الأسرار‏.‏

وجملة ‏{‏لا تغني شفاعتهم‏}‏ الخ، خبر عن ‏{‏كم‏}‏، أي لا تغني شفاعة أحدهم فهو عام لوقوع الفعل في سياق النفي، ولإِضافة شفاعة إلى ضميرهم، أي جميع الملائكة على كثرتهم وعلوّ مقدارهم لا تغني شفاعة واحد منهم‏.‏

و ‏{‏شيئاً‏}‏ مفعول مطلق للتعميم، أي شيئاً من الإِغناء لزيادة التنصيص على عموم نفي إغناء شفاعتهم‏.‏

ولما كان ظاهر قوله‏:‏ ‏{‏لا تغني شفاعتهم‏}‏ يوهم أنهم قد يشفعون فلا تقبل شفاعتهم، وليس ذلك مراداً لأن المراد أنهم لا يجْرَأون على الشفاعة عند الله فلذلك عقب بالاستثناء بقوله‏:‏ ‏{‏إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى‏}‏، وذلك ما اقتضاه قوله‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 28‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 225‏]‏ أي إلا من بعد أن يأذن الله لأحدهم في الشفاعة ويرضى بقبولها في المشفوع له‏.‏

فالمراد ب ‏{‏لمن يشاء‏}‏ من يشاؤه الله منهم، أي فإذا أذن لأحدهم قبلت شفاعته‏.‏ واللام في قوله‏:‏ ‏{‏لمن يشاء‏}‏ هي اللام التي تدخل بعد مادة الشفاعة على المشفوع له فهي متعلقة بشفاعتهم على حد قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ولا يشفعون إلا لمن ارتضى‏}‏، وليست اللامُ متعلقة ب ‏{‏يأذن الله‏}‏‏.‏ ومفعول ‏{‏يأذن‏}‏ محذوف دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏لا تغني شفاعتهم‏}‏، وتقديره‏:‏ أن يأذنهم الله‏.‏

ويجوز أن تكون اللام لتعدية ‏{‏يأذن‏}‏ إذا أريد به معنى يستمع، أي أن يُظهر لمن يشاء منهم أنه يقبل منه‏.‏

ومعنى ذلك أن الملائكة لا يزالون يتقربون بطلب إلحاق المؤمنين بالمراتب العليا كما دل عليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ويستغفرون للذين آمنوا‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 7‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏ويستغفرون لمن في الأرض‏}‏ ‏[‏الشورى‏:‏ 5‏]‏ فإن الاستغفار دعاء والشفاعة توجه أَعلى، فالملائكة يعلمون إذا أراد الله استجابة دعوتهم في بعض المؤمنين أذن لأحدهم أن يشفع له عند الله فيشفع فتقبل شفاعته، فهذا تقريب كيفية الشفاعة‏.‏ ونظيره ما ورد في حديث شفاعة محمد صلى الله عليه وسلم في موقف الحشر‏.‏

وعُطف ‏{‏ويرضى‏}‏ على ‏{‏لمن يشاء‏}‏ للإِشارة إلى أن إذن الله بالشفاعة يجري على حسب إرادته إذا كان المشفوع له أهلاً لأن يُشفع له‏.‏ وفي هذا الإِبهام تحريض للؤمنين أن يجتهدوا في التعرض لرضَى الله عنهم ليكونوا أهلاً للعفو عما فرطوا فيه من الأعمال‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 28‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآَخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى ‏(‏27‏)‏ وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا ‏(‏28‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالاخرة لَيُسَمُّونَ الملائكة تَسْمِيَةَ الانثى وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ‏}‏‏.‏

اعتراض واستطراد لمناسبة ذكر الملائكة وتبعاً لما ذكر آنفاً من جعل المشركين اللاّت والعُزى ومناة بناتتٍ لله بقوله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى إلى قوله‏:‏ ألكم الذكر وله الأنثى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19 21‏]‏ ثُنِّيَ إليهم عنان الرد والإِبطال لزعمهم أن الملائكة بنات الله جمعاً بين ردّ باطلين متشابهين، وكان مقتضى الظاهر أن يعبر عن المردود عليهم بضمير الغيبة تبعاً لقوله‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظن‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 28‏]‏، فعدل عن الإِضمار إلى الإِظهار بالموصولية لما تؤذن به الصلة من التوبيخ لهم والتحقير لعقائدهم إذ كفروا بالآخرة وقد تواتر إثباتها على ألسنة الرسل وعند أهل الأديان المجاورين لهم من اليهود والنصارى والصابئة، فالموصولية هنا مستعملة في التحقير والتهكم نظير حكاية الله عنهم‏:‏ ‏{‏وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون‏}‏ ‏[‏الحجر‏:‏ 6‏]‏ إلا أن التهكم المحكي هنالك تهكم المبطل بالمحق لأنهم لا يعتقدون وقوع الصلة، وأما التهكم هنا فهو تهكم المحق بالمبطل لأن مضمون الصلة ثابت لهم‏.‏

والتسمية مطلقة هنا على التوصيف لأن الاسم قد يطلق على اللفظ الدال على المعنى وقد يطلق على المدلول المسمى ذاتاً كان أو معنى كقول لبيد‏:‏

إلى الحول ثم اسمُ السلام عليكما

أي السُلام عليكما، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏سبح اسم ربك الأعلى‏}‏ ‏[‏الأعلى‏:‏ 1‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏عيناً فيها تسمى سلسبيلاً‏}‏ ‏[‏الإنسان‏:‏ 18‏]‏ أي توصف بهذا الوصف في حسن مآبها، وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هل تعلم له سمياً‏}‏ ‏[‏مريم‏:‏ 65‏]‏، أي ليس لله مثيل‏.‏ وقد مرّ بيانه مستوفى عند تفسير ‏{‏بسم اللَّه الرحمن الرحيم‏}‏ في أول الفاتحة ‏(‏1‏)‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أنهم يزعمون الملائكة إناثاً وذلك توصيف قال تعالى‏:‏ ‏{‏وجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً‏}‏ ‏[‏الزخرف‏:‏ 19‏]‏، وكانوا يقولون الملائكة بنات الله من سروات الجن قال تعالى‏:‏ ‏{‏وقالوا اتخذ الرحمن ولداً سبحانه بل عباد مكرمون‏}‏ ‏[‏الأنبياء‏:‏ 26‏]‏ وقال‏:‏ ‏{‏وجعلوا بينه وبين الجنة نسباً‏}‏ ‏[‏الصافات‏:‏ 158‏]‏‏.‏

والتعريف في ‏{‏الأنثى‏}‏ تعريف الجنس الذي هو في معنى المتعدد والذي دعا إلى هذا النظم مراعاةُ الفواصل ليقع لفظ ‏{‏الأنثى‏}‏ فاصلة كما وقع لفظ ‏{‏الأولى‏}‏ ولفظ ‏{‏يرضَى‏}‏ ولفظ ‏{‏شيئاً‏}‏‏.‏

وجملة ‏{‏وما لهم به من علم‏}‏ حال من ضمير ‏{‏يسمون‏}‏، أي يثبتون للملائكة صفات الإِناث في حال انتفاء علم منهم بذلك وإنما هو تخيل وتوهم إذ العلم لا يكون إلا عن دليل لهم فنفي العلم مراد به نفيه ونفي الدليل على طريقة الكناية‏.‏

‏{‏إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِى مِنَ الحق شَيْئًا‏}‏‏.‏

موقع هذه الجملة ذو شعب‏:‏ فإن فيها بياناً لجملة ‏{‏وما لهم به من علم‏}‏ وعوداً إلى جملة ‏{‏إن يتبعون إلا الظن وما تهوى الأنفس‏}‏، وتأكيداً لمضمونها وتوطئة لتفريع ‏{‏فأعرض عن مَّن تولى عن ذكرنا‏}‏

‏[‏النجم‏:‏ 29‏]‏‏.‏

واستعير الاتّباع للأخذ بالشيء واعتقاد مقتضاه أي ما يأخذون في ذلك إلا بدليل الظن المخطئ‏.‏

وأطلق الظن على الاعتقاد المخطئ كما هو غالب إطلاقه مع قرينة قوله عقبه ‏{‏وإن الظن لا يغني من الحق شيئاً‏}‏ وتقدم نظيره آنفاً‏.‏

وأظهر لفظ ‏{‏الظن‏}‏ دون ضميره لتكون الجملة مستقلة بنفسها فتسير مسير الأمثال‏.‏

ونفي الإِغناء معناه نفي الإِفادة، أي لا يفيد شيئاً من الحق فحرف ‏{‏مِن‏}‏ بيان وهو مقدم على المبينَّ أعني شيئاً‏.‏

و ‏{‏شيئاً‏}‏ منصوب على المفعول به ل ‏{‏يغني‏}‏‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الحق حقائق الأشياء على ما هي عليه وإدراكها هو العلم ‏(‏المعرف بأنه تصور المعلوم على ما هو عليه‏)‏ والظن لا يفيد ذلك الإِدراك بذاته فلو صادف الحق فذلك على وجه الصدفة والاتفاق، وخاصة الظن المخطئ كما هنا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏29- 30‏]‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا ‏(‏29‏)‏ ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى ‏(‏30‏)‏‏}‏

‏{‏فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم‏}‏‏.‏

بعد أن وصف مداركهم الباطلة وضلالهم فَرَّع عليه أمرَ نبيه صلى الله عليه وسلم بالإِعراض عنهم ذلك لأن ما تقدم من وصف ضلالهم كان نتيجة إعراضهم عن ذكر الله وهو التولّي عن الذكر فحق أن يكون جزاؤهم عن ذلك الإِعراض إعراضاً عنهم فإن الإِعراض والتولي مترادفان أو متقاربان فالمراد ب ‏{‏من تولى‏}‏ الفريق الذين أعرضوا عن القرآن وهم المخاطبون آنفاً بقوله‏:‏ ‏{‏ما ضل صاحبكم وما غوى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 2‏]‏ وقوله‏:‏ ‏{‏أفرأيتم اللات والعزى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 19‏]‏ والمخبر عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏إن يتبعون إلا الظن‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 28‏]‏ الخ وقوله‏:‏ ‏{‏إن الذين لا يؤمنون بالآخرة‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 27‏]‏ الخ‏.‏

والإِعراض والتولي كلاهما مستعمل هنا في مجازه؛ فأما الإِعراض فهو مستعار لترك المجادلة أو لترك الاهتمام بسلامتهم من العذاب وغضب الله، وأما التولي فهو مستعار لعدم الاستماع أو لعدم الامتثال‏.‏

وحقيقة الإِعراض‏:‏ لفت الوجه عن الشيء لأنه مشتق من العارض وهو صفحة الخد لأن الكاره لشيء يصرف عنه وجهه‏.‏

وحقيقة التولي‏:‏ الإِدبار والإِنصراف، وإعراض النبي صلى الله عليه وسلم عنهم المأمور به مراد به عدم الاهتمام بنجاتهم لأنهم لم يقبلوا الإِرشاد وإلا فإن النبي صلى الله عليه وسلم مأمور بإدامة دعوتهم للإِيمان فكما كان يدعوهم قبل نزول هذه الآية فقد دعاهم غير مرة بعد نزولها، على أن الدعوة لا تختص بهم فإنها ينتفع بها المؤمنون، ومن لم يسبق منه إعراض من المشركين فإنهم يسمعون ما أنذر به المعرضون ويتأملون فيما تصفهم به آيات القرآن، وبهذا تعلم أن لا علاقة لهذه الآية وأمثالها بالمتاركة ولا هي منسوخة بآيات القتال‏.‏

وقد تقدم الكلام على ذلك في قوله‏:‏ ‏{‏فأعرض عنهم وعظهم‏}‏ في سورة النساء ‏(‏63‏)‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وأعرض عن المشركين‏}‏ في سورة الأنعام ‏(‏106‏)‏، فضُم إليه ما هنا‏.‏

وما صدق ‏{‏من تولى‏}‏ القوم الذين تولوا وإنما جرى الفعل على صيغة المفرد مراعاة للفظ ‏{‏مَن‏}‏ ألا ترى قوله‏:‏ ‏{‏ذلك مبلغهم‏}‏ بضمير الجمع‏.‏

وجيء بالاسم الظاهر في مقام الإِضمار فقيل ‏{‏فأعرض عن من تولى عن ذكرنا‏}‏ دون‏:‏ فأعرض عنهم لما تؤذن به صلة الموصول من علة الأمر بالإِعراض عنهم ومن ترتب توليهم عن ذكر الله على ما سبق وصفه من ضلالهم إذ لم يتقدم وصفهم بالتولّي عن الذكر وإنما تقدم وصف أسبابه‏.‏

والذكر المضاف إلى ضمير الجلالة هو القرآن‏.‏

ومعنى ‏{‏ولم يرد إلا الحياة الدنيا‏}‏ كناية عن عدم الإِيمان بالحياة الآخرة كما دل عليه قوله‏:‏ ‏{‏ذلك مبلغهم من العلم‏}‏ لأنهم لو آمنوا بها على حقيقتها لأرادُوها ولو ببعض أعمالهم‏.‏

وجملة ‏{‏ذلك مبلغهم من العلم‏}‏ اعتراض وهو استئناف بياني بيِّن به سبب جهلهم بوجود الحياة الآخرة لأنه لغرابته مما يسأل عنه السائل وفيه تحقير لهم وازدراء بهم بقصور معلوماتهم‏.‏

وهذا الاستئناف وقع معترضاً بين الجمل وعلتها في قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله‏}‏ الآية‏.‏

وأعني حاصل قوله‏:‏ ‏{‏ولم يرد إلا الحياة الدنيا‏}‏‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏ذلك‏}‏ إشارة إلى المذكور في الكلام السابق من قوله‏:‏ ‏{‏ولم يرد إلا الحياة الدنيا‏}‏ استعير للشيء الذي لم يعلموه اسم الحد الذي يبلغ إليه السائر فلا يعلم ما بعده من البلاد‏.‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى‏}‏‏.‏

تعليل لجملة ‏{‏فأعرض عن من تولى‏}‏ وهو تسلية للنبيء صلى الله عليه وسلم والخبر مستعمل في معنى أنه متولي حسابهم وجزائهم على طريقة الكناية، وفيه وعيد للضالّين‏.‏ والتوكيد المفاد ب ‏{‏إنَّ‏}‏ وبضمير الفصل راجع إلى المعنى الكنائي، وأما كونه تعالى أعلم بذلك فلا مقتضى لتأكيدها لما كان المخاطب به النبي صلى الله عليه وسلم والمعنى‏:‏ هو أعلم منك بحالهم‏.‏

وضمير الفصل مفيد القصر وهو قصر حقيقي‏.‏ والمعنى‏:‏ أنت لا تعلم دخائلهم فلا تتحسر عليهم‏.‏

وجملة ‏{‏وهو أعلم بمن اهتدى‏}‏ تتميم، وفيه وعد للمؤمنين وبشارة للنبي صلى الله عليه وسلم والباء في ب ‏{‏من ضل‏}‏ وفي ب ‏{‏من اهتدى‏}‏ لتعدية صفتي ‏{‏أعلم‏}‏ وهي للملابسة، أي هو أشد علماً ملابساً لمن ضل عن سبيله، أي ملابساً لحال ضلاله، وتقديم ذكر ‏{‏من ضل‏}‏ على ذكر ‏{‏من اهتدى‏}‏ لأن الضالّين أهمّ في هذا المقام، وأما ذكر المهتدين فتتميمِ‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏31- 32‏]‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ‏(‏31‏)‏ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى ‏(‏32‏)‏‏}‏

‏{‏وَلِلَّهِ مَا فِى السماوات وَمَا فِى الارض لِيَجْزِىَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِى الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى الذين يَجْتَنِبُونَ كبائر الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم إِنَّ رَبَّكَ واسع المغفرة‏}‏‏.‏

عطف على قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله‏}‏ الخ فبعد أن ذكر أن لله أمور الدارين بقوله‏:‏ ‏{‏فللَّه الآخرة والأولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 25‏]‏ انتقل إلى أهم ما يجري في الدارين من أحوال الناس الذين هم أشرف ما على الأرض بمناسبة قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 30‏]‏ المراد به الإِشارة إلى الجزاء وهو إثبات لوقوع البعث والجزاء‏.‏

فالمقصود الأصلي من هذا الكلام هو قوله‏:‏ ‏{‏وما في الأرض‏}‏ لأن المهم ما في الأرض إذ هم متعلق الجزاء، وإنما ذكر معه ما في السماوات على وجه التتميم للإِعلام بإحاطة ملك الله لما احتوت عليه العوالم كلها ونكتة الابتداء بالتتميم دون تأخيره الذي هو مقتضى ظاهر في التتميمات هي الاهتمام بالعالم العلوي لأنه أوسع وأشرف وليكون المقصود وهو قوله‏:‏ ‏{‏ليجزى الذين أساءوا بما عملوا‏}‏ الآية مقترناً بما يناسبه من ذكر ما في الأرض لأن المجزيين هم أهل الأرض، فهذه نكتة مخالفة مقتضى الظاهر‏.‏

فيجوز أن يتعلق قوله‏:‏ ‏{‏ليجزى‏}‏ بما في الخبر من معنى الكون المقدَّر في الجار والمجرور المخبر به عن ‏{‏ما في السموات وما في الأرض‏}‏ أي كائن ملكاً لله كوناً علته أن يجزي الذين أساءوا والذين أحسنوا من أهل الأرض، وهم الذين يصدر منهم الإِساءة والإِحسان فاللام في قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي‏}‏ لام التعليل، جعل الجزاء علة لثبوت ملك الله لما في السموات والأرض‏.‏

ومعنى هذا التعليل أنّ من الحقائق المرتبطة بثبوت ذلك الملك ارتباطاً أوَّليًّا في التعقل والاعتبار لا في إيجاد فإن ملك الله لما في السماوات وما في الأرض ناشئ عن إيجاد الله تلك المخلوقات والله حين أوجدها عالم أن لها حياتين وأن لها أفعالاً حسنة وسيئة في الحياة الدنيا وعالم أنه مجزيها على أعمالها بما يناسبها جزاء خالداً في الحياة الآخرة فلا جرم كان الجزاء غايةً لإِيجاد ما في الأرض فاعتبر هو العلة في إيجادهم وهي علة باعثة يحتمل أن يكون معها غيرُها لأن العلة الباعثة يمكن تعددها في الحكمة‏.‏

ويجوز أن يتعلق بقوله‏:‏ ‏{‏أعلم‏}‏ من قوله‏:‏ ‏{‏هو أعلم بمن ضل عن سبيله‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 30‏]‏، أي من خصائص علمه الذي لا يعزب عنه شيء أن يكون علمه مرتباً عليه الجزاءُ‏.‏

والباءاننِ في قوله‏:‏ ‏{‏بما عملوا‏}‏ وقوله‏:‏ ‏{‏بالحسنى‏}‏ لتعدية فعْلي ‏{‏ليجزي‏}‏ و‏{‏يجزي‏}‏ فما بعد الباءَيْن في معنى مفعول الفعلين، فهما داخلتان على الجزاء، وقوله‏:‏ ‏{‏بما عملوا‏}‏ حينئذٍ تقديره‏:‏ بمثل ما عملوا، أي جزاء عادلاً مماثلاً لما عملوا، فلذلك جعل بمنزلة عين ما عملوه على طريقة التشبيه البليغ‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏بالحسنى‏}‏ أي بالمثوبة الحسنى، أي بأفضل مما عملوا، وفيه إشارة إلى مضاعفة الحسنات كقوله‏:‏ ‏{‏من جاء بالحسنة فله خير منها‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 89‏]‏‏.‏ والحسنى‏:‏ صفة لموصوف محذوف يدل عليه ‏{‏يجزي‏}‏ وهي المثوبة بمعنى الثواب‏.‏

وجاء ترتيب التفصيل لجزاء المسيئين والمحسنين على وفق ترتيب إجماله الذي في قوله‏:‏ ‏{‏إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله وهو أعلم بمن اهتدى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 30‏]‏ على طريقة اللف والنشر المرتب‏.‏

وقوله‏:‏ ‏{‏الذين يجتنبون كبائر الإثم‏}‏ الخ صفة ل ‏{‏الذين أحسنوا‏}‏، أي الذين أحسنوا واجتنبوا كبائر الإِثم والفواحش، أي فعلوا الحسنات واجتنبوا المنهيات، وذلك جامع التقوى‏.‏ وهذا تنبيه على أن اجتناب ما ذكر يعُدّ من الإِحسان لأن فعل السيئات يُنافي وصفهم بالذين أحسنوا فإنهم إذا أتوا بالحسنات كلها ولم يتركوا السيئات كان فعلهم السيئات غير إحسان ولو تركوا السيئات وتركوا الحسنات كان تركهم الحسنات سيئات‏.‏

وقرأ الجمهور ‏{‏كبائر الإثم‏}‏ بصيغة جمع ‏(‏كبيرة‏)‏‏.‏ وقرأ حمزة والكسائي ‏{‏كبيرَ الإِثم‏}‏ بصيغة الإِفراد والتذكير لأن اسم الجنس يستوي فيه المفرد والجمع‏.‏

والمراد بكبائر الإِثم‏:‏ الآثام الكبيرة فيما شرع الله وهي ما شدد الدين التحذير منه أو ذكر له وعيداً بالعذاب أو وصف على فاعله حداً‏.‏

قال إمام الحرمين‏:‏ «الكبائر كل جريمة تؤذن بقلة اكتراثثِ مرتكبها بالدين وبرقة ديانته»‏.‏

وعطف الفواحش يقتضي أن المعطوف بها مغاير للكبائر ولكنها مغايرة بالعموم والخصوص الوجهي، فالفواحش أخص من الكبائر وهي أقوى إثماً‏.‏

والفواحش‏:‏ الفعلات التي يعد الذي فعلها متجاوزاً الكبائر مثل الزنى والسرقة وقتل الغيلة، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة الأنعام عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها وما بطن‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 33‏]‏ الآية وفي سورة النساء ‏(‏31‏)‏ في قوله‏:‏ ‏{‏إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه‏}‏ واستثناء اللمم استثناء منقطع لأن اللمم ليس من كبائر الإِثم ولا من الفواحش‏.‏

فالاستثناء بمعنى الاستدراك‏.‏ ووجهه أن ما سمي باللمم ضرب من المعاصي المحذر منها في الدين، فقد يظن الناس أن النهي عنها يلحقها بكبائر الإِثم فلذلك حق الاستدراك، وفائدة هذا الاستدراك عامة وخاصة‏:‏ أما العامة فلكي لا يعامِل المسلمون مرتكب شيء منها معاملة من يرتكب الكبائر، وأما الخاصة فرحمة بالمسلمين الذين قد يرتكبونها فلا يَقُل ارتكابها من نشاط طاعة المسلم، ولينصرف اهتمامه إلى تجنب الكبائر‏.‏ فهذا الاستدراك بشارة لهم، وليس المعنى أن الله رخص في إتيان اللمم‏.‏ وقد أخطأ وضاح اليَمن في قوله الناشئ عن سوء فهمه في كتاب الله وتطفله في غير صناعته‏:‏

فما نوَّلَتْ حتى تضرعتُ عندها *** وأنبأتُها ما رَخَّص الله في اللَّمم

واللمم‏:‏ الفعل الحرام الذي هو دون الكبائر والفواحش في تشديد التحريم، وهو ما يندر ترك الناس له فيكتفى منهم بعدم الإكثار من ارتكابه‏.‏ وهذا النوع يسميه علماء الشريعة الصغائر في مقابلة تسمية النوع الآخر بالكبائر‏.‏

فمثلوا اللمم في الشهوات المحرمة بالقبلة والغمزة‏.‏ سمي‏:‏ اللمم، وهو اسم مصدر أَلمَّ بالمكان إلماماً إذا حلّ به ولم يُطل المكث، ومن أبيات الكتاب‏:‏

قريشي منكمُ وَهَوَايَ مَعْكُم *** وإن كانت زيارتكم لِمامَا

وقد قيل إن هذه الآية نزلت في رجل يسمى نَبْهان التَمَّار كان له دُكان يبيع فيه تمراً ‏(‏أي بالمدينة‏)‏ فجاءته امرأة تشتري تمراً فقال لها‏:‏ إنّ داخل الدُكان ما هو خير من هذا، فلما دخلت راودها على نفسها فأبت فندم فأتى النبي وقال‏:‏ ما من شيء يصنعه الرجل إلا وقد فعلته ‏(‏أي غصباً عليها‏)‏ إلا الجماع، فنزلت هذه الآية، أي فتكون هذه الآية مدنية أُلحقت بسورة النجم المكية كما تقدم في أول السورة‏.‏

والمعنى‏:‏ أن الله تجاوز له لأجل توبته‏.‏ ومن المفسرين من فسر اللَّمم بِالهَمّ بالسيئة ولا يفعل فهو إلمام مجازي‏.‏

وقوله‏:‏ إن ربك واسع المغفرة‏}‏ تعليل لاستثناء اللمم من اجتنابهم كبائر الإِثم والفواحش شرطاً في ثبوت وصف ‏{‏الذين أحسنوا‏}‏ لهم‏.‏

وفي بناء الخبر على جعل المسند إليه ‏{‏ربك‏}‏ دون الاسم العلم إشعار بأن سعة المغفرة رفق بعباده الصالحين شأن الرب مع مربوبه الحق‏.‏

وفي إضافة ‏(‏رب‏)‏ إلى ضمير النبي صلى الله عليه وسلم دون ضمير الجماعة إيماء إلى أن هذه العناية بالمحسنين من أمته قد حصلت لهم ببركته‏.‏

والواسع‏:‏ الكثير المغفرة، استعيرت السعة لكثرة الشمول لأن المكان الواسع يمكن أن يحتوي على العدد الكثير ممن يحلّ فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏ربنا وسعت كل شيء رحمة وعلماً‏}‏ وتقدم في سورة غافر ‏(‏7‏)‏‏.‏

هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الارض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِى بُطُونِ أمهاتكم فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى‏}‏‏.‏

الخطاب للمؤمنين، ووقوعه عقب قوله‏:‏ ‏{‏ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى‏}‏ ينبئ عن اتصال معناه بمعنى ذلك فهو غير مُوجه لليهود كما في «أسباب النزول» للواحدي وغيره‏.‏ وأصله لعبد الله بن لهيعة عن ثابت بن حارث الأنصاري‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ كانت اليهود إذا هلك لهم صبي صغير يقولون‏:‏ هو صدِّيق، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ كذبت يهود، ما من نسمة يخلقها الله في بطن أمه إلا أنه شقي أو سعيد ‏"‏ فأنزل الله هذه الآية‏.‏ وعبد الله بن لهيعة ضَعفه ابن معين وتَركه وكيع ويحيى القطان وابن مهدي‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ العَمل على تضعيفه، قلت‏:‏ لعل أحد رواة هذا الحديث لم يضبط فقال‏:‏ فأنزل الله هذه الآية، وإنما قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذاً بعموم قوله‏:‏ ‏{‏هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض‏}‏ الخ، حجة عليهم، وإلاّ فإن السورة مكية والخوض مع اليهود إنما كان بالمدينة‏.‏

وقال ابن عطية‏:‏ حكى الثعلبي عن الكلبي ومقاتل أنها نزلت في قوم من المؤمنين فخروا بأعمالهم‏.‏

وكأنَّ الباعث على تطلب سبب لنزولها قصد إبداء وجه اتصال قوله‏:‏ ‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏ بما قبله وما بعده وأنه استيفاء لمعنى سعة المغفرة ببيان سعة الرحمة واللطف بعباده إذْ سلك بهم مسلك اليسر والتخفيف فعفا عمّا لو آخذهم به لأحرجهم فقوله‏:‏ ‏{‏هو أعلم بكم‏}‏ نظير قوله‏:‏ ‏{‏الآن خفف الله عنكم وعلم أن فيكم ضعفاً‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 66‏]‏ الآية ثم يجيء الكلام في التفريع بقوله‏:‏ ‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏‏.‏

فينبغي أن تحل جملة ‏{‏هو أعلم بكم‏}‏ إلى آخرها استئنافاً بيانياً لجملة ‏{‏إن ربك واسع المغفرة‏}‏ لما تضمنته جملة ‏{‏إن ربك واسع المغفرة‏}‏ من الامتنان، فكأن السامعين لما سمعوا ذلك الامتنان شكروا الله وهجس في نفوسهم خاطر البحث عن سبب هذه الرحمة بهم فأجيبوا بأن ربهم أعلم بحالهم من أنفسهم فهو يدبر لهم ما لا يخطر ببالهم، ونظيره ما في الحديث القدسي قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر خيراً من بَلْه ما أطَّلَعتم عليه ‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏إذ أنشأكم‏}‏ ظرف متعلق ب ‏(‏أعلم‏)‏، أي هو أعلم بالناس من وقت إنشائه إياهم من الأرض وهو وقت خلق أصلهم آدم‏.‏

والمعنى‏:‏ أن إنشاءهم من الأرض يستلزم ضعف قدرهم عن تحمل المشاق مع تفاوت أطوار نشأة بني آدم، فالله علم ذلك وعلم أن آخر الأمم وهي أمة النبي صلى الله عليه وسلم أضعف الأمم‏.‏ وهذا المعنى هو الذي جاء في حديث الإِسراء من قول موسى لمحمد عليهما الصلاة والسلام حين فرض الله على أمته خمسين صلاة «إن أمتك لا تطيق ذلك وإني جربت بني إسرائيل» أي وهم أشد من أمتك قوة، فالمعنى أن الضعف المقتضي لسعة التجاوز بالمغفرة مقرر في علم الله من حين إنشاء آدم من الأرض بالضعف الملازم لجنس البشر على تفاوت فيه قال تعالى‏:‏ ‏{‏وخلق الإِنسان ضعيفاً‏}‏ ‏[‏النساء‏:‏ 28‏]‏، فإن إنشاء أصل الإِنسان من الأرض وهي عنصر ضعيف يقتضي ملازمة الضعف لجميع الأفراد المنحدرة من ذلك الأصل‏.‏ ومنه قوله النبي‏:‏ ‏"‏ إن المرأة خُلقت من ضِلَع أعوج ‏"‏‏.‏ وقوله‏:‏ ‏{‏وإذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم‏}‏ يختص بسعة المغفرة والرفق بهذه الأمة وهو متقضى قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 185‏]‏‏.‏

والأجنة‏:‏ جمع جنين، وهو نسل الحيوان ما دام في الرحم، وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مستور في ظلمات ثلاث‏.‏

وفي ‏{‏بطون أمهاتكم‏}‏ صفة كاشفة إذ الجنين لا يقال إلا على ما في بطن أمه‏.‏ وفائدة هذا الكشف أن فيه تذكيراً باختلاف أطوار الأجنة من وقت العلوق إلى الولادة، وإشارة إلى إحاطة علم الله تعالى بتلك الأطوار‏.‏

وجملة ‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏ اعتراض بين جملة ‏{‏هو أعلم بكم‏}‏ وجملة

‏{‏أفرأيت الذي تولى‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 33‏]‏ الخ، والفاء لتفريع الاعتراض، وهو تحذير للمؤمنين من العُجب بأعمالهم الحسنة عجباً يحدثه المرء في نفسه أو يدخله أحدٌ على غيره بالثناء عليه بعمله‏.‏

و ‏{‏تزكوا‏}‏ مضارع زكى الذي هو من التضعيف المراد منه نسبة المفعول إلى أصل الفعل نحو جَهَّله، أي لا تنسبوا لأنفسكم الزكاة‏.‏

فقوله‏:‏ ‏{‏أنفسكم‏}‏ صادق بتزكية المرء نفسه في سره أو علانيته فرجع الجمع في قوله‏:‏ ‏{‏فلا تزكوا‏}‏ إلى مقابلة الجمع بالجمع التي تقتضي التوزيع على الآحاد مثل‏:‏ ركب القوم دوابهم‏.‏

والمعنى‏:‏ لا تحسبوا أنفسكم أزكياء وابتغوا زيادة التقرب إلى الله أولاً تثقوا بأنكم أزكياء فيدخلكم العجب بأعمالكم ويشمل ذلك ذكر المرء أعماله الصالحة للتفاخر بها، أو إظهارها للناس، ولا يجوز ذلك إلا إذا كان فيه جلب مصلحة عامة كما قال يوسف‏:‏ ‏{‏اجعلني على خزائن الأرض إني حفيظ عليم‏}‏ ‏[‏يوسف‏:‏ 55‏]‏‏.‏ وعن الكلبي ومقاتل‏:‏ كان ناس يعملون أعمالاً حسنة ثم يقولون‏:‏ صلاتنا وصيامنا وحجنا وجهادنا، فأنزل الله تعالى هذه الآية‏.‏

ويشمل تزكية المرء غيره فيرجع ‏{‏أنفسكم‏}‏ إلى معنى قَومكم أو جماعتكم مثل قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 61‏]‏ أي ليسلم بعضكم على بعض‏.‏ والمعنى‏:‏ فلا يثني بعضكم على بعض بالصلاح والطاعة لئلا يغيرُه ذلك‏.‏

وقد ورد النهي في أحاديث عن تزكية الناس بأعمالهم‏.‏ ومنه حديث أم عطية حين مات عثمان بن مظعون في بيتها ودخل عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت أم عطية‏:‏ «رحمةُ الله عليك أبا السائب ‏(‏كنية عثمان بن مظعون‏)‏ فشهادتي عليك لقد أكرمكَ الله فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم وما يُدريك أن الله أكرمه، فقالت‏:‏ إذا لم يُكرمه الله فمنْ يكرمهُ الله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير وإني والله ما أدري وأنا رسولُ الله ما يُفعل بي»‏.‏ قالت أم عطية‏:‏ فلا أزكي أحداً بعدَ ما سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شاع من آداب عصر النبوة بين الصحابة التحرز من التزكية وكانوا يقولون إذا أثنوا على أحد لا أعلم عليه إلا خيراً ولا أزكي على الله أحداً‏.‏

وروى مسلم عن محمد بن عمرو بن عطاء قال‏:‏ «سميت ابنتي بَرة فقالت لي زينب بنت بن سلمة إن رسول الله نهى عن هذا الإسم، وسُمِّيتُ برة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم، قالوا‏:‏ بم نسميها‏؟‏ قال‏:‏ سموها زينب»‏.‏ وقد ظهر أن النهي متوجه إلى أن يقول أحد ما يفيد زكاء النفس، أي طهارتها وصلاحها، تفويضاً بذلك إلى الله لأن للناس بواطن مختلفةَ الموافقةِ لظواهرهم وبين أنواعها بَون‏.‏

وهذا من التأديب على التحرز في الحكم والحيطة في الخِبرة واتهام القرائن والبوارق‏.‏

فلا يدخل في هذا النهي الإِخبارُ عن أحوال الناس بما يعلم منهم وجربوا فيه من ثقة وعدالة في الشهادة والرواية وقد يعبر عن التعديل بالتزكية وهو لفظ لا يراد به مثل ما أريد من قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلا تزكوا أنفسكم‏}‏ بل هو لفظ اصطلح عليه الناس بعد نزول القرآن ومرادهم منه واضح‏.‏

ووقعت جملة ‏{‏هو أعلم بمن اتقى‏}‏ موقع البيان لسبب النهي أو لأهمِّ أسبابه، أي فوضوا ذلك إلى الله إذ هو أعلم بمن اتقى، أي بحال من اتقى من كمال تقوى أو نقصها أو تزييفها‏.‏ وهذا معنى ما ورد في الحديث أن يقول من يخبر عن أحد بخير‏:‏ «لا أزكي على الله أحداً» أي لا أزكى أحداً معتلياً حق الله، أي متجاوزاً قدري‏.‏